دار النشر
The Grand Library
تصميم الغلاف/ أحمد الحيدري
£6.00
ولدتْ في النجف / العراق 1967، صدرلها في الشعر: خمسة عناوين لصديقي البحر 1998، لأنني فتاة 1991، ولو بعد حين 2008، قصائد امي 2010، لا تقل أنا قل أنا 2014،
The Grand Library
تصميم الغلاف/ أحمد الحيدري
تقديم لابد منه، عندما ينفتح القارئ على نماذج كتابية لأدباء في الغربة، يجد نفسه أمام كم هائل من الأسى والشجن، يصبُّه الكاتبُ على حروفه التي بات النوم بعيدا عن عيونها.
ولعل الكاتبة العراقية «فليحة حسن» المقيمة في أمريكا، من الأدباء الذين نوعوا في كتاباتهم بين القصة والشعر والرواية، ومن أهم أعمالها التي سنتناولها بالدرس والتحليل في هذا المنجز النقدي رواية «بعيدا عن العنكبوت حارستي حمامة وأكره مدينتي» الصادرة عن دار «آراس» في أربيل سنة 2012 وهي رواية بالرغم من حجمها القصير فإن موضوعها كبير شساعة السماء، لما لها من أهمية في طرحها لموضوع يدخل في إطار الكتابة العجائبية التي يختلط فيها الواقعي بالغرائبي، وهو تجريب فنتاستيكي يبحث عميقا في المتخيل الجمعي/الجماعي ليعكسه أدبا.
ويعتبر السرد الفنتاستيكي من أنواع السرود المعقدة التي تشتغل على مواضيع غرائبية وعجائبية، تمزج بين الواقع واللاواقع، لتجعل المتلقي يصدق هذا اللاواقع ويتتبع محكياته بكل تركيز واهتمام..
إنها رواية يحار القارئ في تصنيفها أهي حوارية سردية؟ لأنها تقوم وتنهض على الحوار الدائم بين شخصياتها، أم هي سرد حواري؟ استطاعت الأديبة من خلالها استنطاق السرد وجعلته يواكب درجات شد الحبل بين الشخصيات وهي تتحاور.
إن الرواية تتصف بطابعها السوداوي الغارق في خضم هائل من الأحداث المأساوية الدرامية، حيث المأساة تبدأ بموت علي شهيدا في الحرب مع العدو، وموت والده في المقهى حين تلقيه نبأ استشهاد ولده، ثم الفاجعة الكبرى وهي شعور أرملة علي الحامل بشيء غريب يتحرك في رحمها، وفي لحظة الولادة تتفاجأ الجدة بأن أرملة ابنها تضع توأما سياميا من ذكر وأنثى. وازدادت الرواية توترا وتأزيما عندما شاء القدر أن يختطف أم التوأم السيامي، وتبقى الجدة وحدها وجها لوجه أمام هذا المخلوق البشري العجيب الغريب الذي تتعدد خدماته وحاجياته كلما مرت الأيام والسنون، وهي المرأة العراقية الأمية التي تعاني القهر الأسري والاجتماعي والاقتصادي ومعاناة الحروب المستمرة التي عرفها العراق.
فالرواية تُشعر القارئ وكأنه يمشي في الوحل بعد أن أضاع الطريق، أو يمشي في يوم قائظ في صحراء ليس فيها غير أحراش وبقايا صبار، لأن أحداثها تحكي مأساة هذا التوأم السيامي وهما يطرحان أسئلة وجودية للبحث عن الذات، لكن لا جواب مقنع يشفي غليلهما بحكم هذا الالتصاق الدائم والأبدي، فالذكر ملتصق بالأنثى وكل واحد منهما يفكر بأسلوبه، حيث الذكر يبدو أكثر تمردا وأكثر سخطا على الوضع، فالجدة عندما تتحدث عن صعوبة وجود قماط يلفهما يبادر الذكر ويحرجها قائلا: لا تتحدثين عن القماط الذي يضمنا، وإنما تحدثي عن الكفن الذي سيجمعنا عندما نموت، في إشارة منه إلى استشرافه للمستقبل الحالك الذي ينتظرهما في الحياة وفي الممات.
إنهما يطرحان سيلا من الأسئلة الوجودية الساخطة على القدر الذي اختارهما دون الملايين من الأطفال حديثي الولادة، أسئلة كثيرة يطرحانها عن معاناتهما في اليقظة وفي النوم وأثناء قضاء حاجتهما وعند بلوغهما سن الرشد ورغبتهما في تفريغ غرائزهما الجنسية وهما «نائمان فوق سرير أبويهما الواسع». ومما زاد من معاناتهما حبسهما في غرفة في البيت دون اختلاطهما بالناس إلا من المقربين جدا من العائلة، لكن في آخر المطاف وأثناء إلحاحهما على ضرورة الإطلاع على العالم الخارجي فتحت لهما الجدة كُوَات في الجدار، يرون من خلالها ما يجري من أحداث، وأول ما استرعى انتباههما صراع الأطفال حول البالونة وضرب أحدهما بالحجر على رأسه ليسيل منه دم كثير، وهو مشهد مأساوي في الخارج أرادت من خلاله الجدة/الساردة على استمرار الحرب والمعاناة، ما يؤكد على الرضى بالواقع خير من البحث عن عالم صدامي دموي ينتهي بانتهاء الرواية دم دم دم.
«سارع التوأمان من مكانهما زحفا إلى ثقوب الجدار، ونظرا بسعادة كبيرة جدا، إلى الشارع الذي بانت لهما أجزاء منه وأول مرة في حياتهما، وقع نظرهما على طفل يحمل بيديه بالونا يضمها لصدره وآخر يحاول أخذها عنوة منه، ولما لم يفلح الأخير في ذلك رفع كسرة من إحدى الطابوقات وضرب بها رأس صاحب البالونة فشغب الدم من رأسه وأخذ يصرخ صائحا وهو يركض حاملا بالونة : دم… دم…. دم».
من خلال تتبعنا لهذه الرواية القصيرة نلاحظ أن قوتها في بساطتها، فهي لا تتضمن تعقيدا فنيا، ولا سردا أفعوانيا، بل هي مكونة من متواليات سردية قادرة على تكوين الفحوى النهائية والتصور الأخير للقارئ، ومما زاد من متعتها وجماليتها الموضوع العجائبي الذي قل حدوثه وهو اختيار شخصيات الرواية التوأم السيامي الذي يفتح المجال للقارئ بأن يتخيل ما يجري من أحداث عاشها هذا التوأم ولم تستطع الروائية الافصاح عنها، بمعنى أن الكاتبة فليحة حسن استطاعت توريط القارئ في تأثيث المشاهد، وذلك بأن يملأ الفراغات في الرواية لكي يتجاوزعدد صفحاتها أضعاف ما كتبته الكاتبة، لأنها بحسب لوسيان
غولدمان تعتبر بمث ابة الإله الخفي الذي يبدع شخصياته، ويبتكر قراءه.
ومما ميز الرواية عن كثير من الأعمال السردية هو أنها تسير عكس الإتجاه، إذ لم تكتب كباقي الروايات وإنما كتبت بطريقة غير اعتيادية، فكل شيء فيها غير اعتيادي بدءا بالشخصيات، وبأسمائها حيث ان الكاتبة لم تسم شخصيتيها الرئيسيتين باسمين معينين، وإنما نعتتهما بالذكر والأنثى، مرورا بالأحداث التي مرت في جو من الغرابة والدهشة والحيرة، حيث عنصر الموت كان واردا بقوة لتأتي بعده الولادة الغريبة والمفاجئة، غير أن حضور الجدة كان عنصرا أساسيا في توالي الأحداث، مع احترام الخيط الناظم لهذه الأحداث بالرغم من فاجعيتها، ومن عالمها المتخيل الذي يجمع بين الواقعي والتخييلي، كما أن المكان/البيت كان له الدور الكبير في احتفاظ القارئ على توازنه القرائي وجعله متتبعا للأحداث في عوالم أرادت الكاتبة أن تكون مقلقة ومستفزة لفكر القارئ، جعلته يتوه بين ما هو واقعي وما هو خيالي، محاولا الإمساك بتسلسل الأحداث وبمدى صدقيتها، وهي طريقة في السرد غامرت الكاتبة من خلالها، حيث استطاعت انتزاع مفاتيح القارئ وجعلته يؤمن بحقيقة مستويات السرد الروائي. ثم إن الرواية بشخصياتها المحدودة العدد تبدو وكأنها مسرحية فردية، والشخصيات الأخرى ما هي إلا تمويهات سردية تديرها الكاتبة وتتحكم في خيوطها، والدليل أن الشخصيات لم تكن هي السارد في الرواية بل هي المسرود، هي الموضوع الذي تدور حوله فصول الرواية القصيرة/العميقة، وهي بذلك تعتبر علامة تطرح موضوع الكينونة بالمفهوم الهايدغري الذي يفصل بين الكائن والكون، ولكن أي كون نعني هنا في هذه الرواية؟ إنه كون ضيق لا يتعدى حدود البصر، وعندما أراد التوأم السيامي تجاوز هذا الكون اصطدم بالصراع الآدمي المرير حول أتفه الأشياء يعني حول البالونة…
إن الروائية باختيارها لهذا الموضوع بالذات كان الغرض منه الإحساس بالمعاناة الإنسانية وقت الحروب، والشعور بمثل ما يشعر به أمثال هذه الحالة الإنسانية، وشعورهم بالمكان باعتباره مكانا مقوقعا لا يبرح يتجاوز الحيز المكاني الذي يعيشان فيه وهو الغرفة والحمام. إنها حقا المعاناة إلى درجة أنهما أصبحا يفضلان الموت على البقاء على هذه الصورة، وهذا الإحساس هو في الحقيقة تعبير عن انكسار في نفسية وشخصية البطلين، بل هو انكسار مزدوج، انكسار قادم من فقدان الأبوين وانكسار قادم من الحالة والخلقة التي ولدا عليها.
محمد يوب
ناقد مغربي
القدس العربي لندن