دار النشر
The Grand Library
ISBN978-1-915149-11-4
£2.00
غانم على شفيق بابان مواليد 1950 تخرج من معهد الفنون الجميلة قسم المسرح (تمثيل) حاصل على دبلوم فنون مسرحية سنة 1970… شارك في عدد من الأعمال المسرحية في المعهد،
وأنضم إلى فرق مسرحية أهلية مبكرا وأدى بعض الأدوار قبل تخرجه من المعهد. في خريف 1970 بدأ دراسته في اكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح فرع (التمثيل) ، وشارك في عدة أعمال مسرحية على الخشبة وكذلك في الإضاءة المسرحية والماكياج. .. ثم عمل في تلفزيون بغداد كماكيير وهو عمل وظيفي فقط إذ أن ولعه كان التمثيل على الخشبة فحسب. شارك في العديد من المسرحيات مع فرق مسرحية فضلا عن الأعمال التي اشترك بها في المعهد والاكاديمية وهي؛ ورد جهنمي، سرحان بشارة سرحان، أنشودة أنغولا، البقرة الحلوب، مدينه تحت الجذر التكعيبي، مهنة جذابة، بغداد الأزل بين الجد والهزل، مهنة جذابة ، امتحان الموديل ، رقصة الأقنعة… وإعمال منعت من التقديم… عمل تلفزيوني مع الحاج يحي فائق والقضية رقم ٢ لجعفر على.. ومسرحية الجومة ثم المسخ (كافكا) منعت أيضا
غادر العراق بداية 1979 واشترك في مسرحية (ثورة الموتى) ثم عمل في مسرحية حكاية جلاد (القصة المزدوجة للدكتور بألمي) في بيروت لكن اجتياح إسرائيل للبنان حال دون تقديمها… هاجر للسويد 1989 وعاد إلى العراق بعد 2003 متنقلا بين السويد وبغداد التي توفي فيها في 16 بونيو/ حزيران إثر أصابته بجلطة في منزله في بغداد هذا العام.
The Grand Library
ISBN978-1-915149-11-4
مذكّرات تشبه غنيمة حرب
لم ألتق بغانم في عدن، لكنّني كنت على معرفة جيّدة به. كانت نافذتي على غانم هي صديقنا المشترك، المخرج المسرحيّ إسماعيل خليل. إسماعيل صديق قريب جدًّا منّي، تقاسمنا معاً مكابدات العزل والتنغيص الحياتيّ، وواجهنا المعاناة البغيضة بطرق مختلفة، كان من بينها الإخلاص للإبداع. كنت إلى جانب إسماعيل في كلّ أعماله المسرحيّة، تشجيعاً وتحميساً في فترات اليأس والعوز، وكتابةً في فترات العرض والنجاح، فقد نشرت عن عروض مسرحياته “العودة المفاجئة” لمارتين أووسو، و”رأس المملوك جابر” لسعد الله ونّوس، وغيرهما. كانت قواسمنا المشتركة كثيرة وعميقة، وقد استمرّت رغم فراقنا، وظلّت صافية الجوهر حتّى لحظة وداعه.
من سخريات القدر أن أكتب الآن عن أصدقاء وأحباء موتى وأنا أمهّد للكتابة عن صديق حيّ. في لقاء لي في عدن بالممثلة العراقيّة القديرة، الراحلة زينب، أشادت بإحدى مقالاتي عن مسرحيّة لإسماعيل، وعلّقت ساخرة وممازحة: “شنو بس إسماعيل؟”، فقلت لها: “هبيني مسرحية أهبك نقداً أدبيًّا!”. ربّما يبدو ردّي جارحاً بمنظار اليوم، لكنّه كان عفويًّا وحقيقيًّا وصادقاً، فكم كنت أتمنى أن تكون زينب، التي أحبّها، مركز إشعاع فنيّ في “كومونة عدن” المضاعة. حينما أخبرت إسماعيل فسّر العبارة بطريقته قائلاً: ” الجماعة راصدينا عالمضبوط”. لكنّ زينب كسرت هذا الانطباع الظالم حينما عشنا في منفى آخر. في السويد، بادرت زينب إلى تقديم نصّ لي، مأخوذ من رواية “سماء في حجر”، بإعداد مسرحيّ من الفنان لطيف صالح. كانت الرواية أوّل نصّ روائيّ مناهض للحرب، ربّما لهذا السبب أغراها النصّ، وشجّعها على المغامرة في تخطّي جدار المحرّمات الحزبيّة الجاهلة. وربّما أيضاً لنفي تهمة القطيعة، التي لحقت بها من قبل الشكاكين من أمثالنا، وهي المحميّة والمحظيّة والمسموعة. لكنّ محاولات تقديم المسرحيّة باءت بالفشل في مراحلها الأخيرة، فعمّقت الحادثة مجدّداً، وأكدت لي ولها وللآخرين، أنّ اختراق جدار الأحقاد والغباء الحزبيّ خط أحمر حتّى بالنسبة للمحظيين.
في هذا المناخ، الذي لا يعرفه كثيرون عاش غانم ومعه مئات من المبدعين العراقيين في منافي الله العديدة.
في هذا المناخ الثقافي الشرس، المتعدّد الأعداء والمهاجمين، كان إسماعيل في نظري هو النسخة الوجوديّة لغانم. لذلك كنت مكتفياً بقربي من إحدى النسختين، على الرغم من أنّني كنت أتابع بحرص وألم شديد صراع غانم مع أقداره الجديدة.
بعد عدن، وغياب إسماعيل، ضاع الخيط الموصل بغانم.
ولكن، فجأة، لا أعرف كيف ولماذا، انبثق غانم مجدّداً، مخترقاً جدار العزلة النفسيّة والسياسيّة، وظهر في ثوب لم نحسب له حساباً، ثوب يليق به حتماً، ويختزل على نحو صادق ملامحه كلّها. جاء غانم هذه المرّة في زيّ الحكواتي الساخر، حاملاً لسان أبطال الحكايات الشعبيّة التهكميين، مستخدماً مقهى الانترنيت فضاء كونيًّا للفرجة السرديّة، جامعاً بين السارد والبطل، بين الراوي وصاحب السيرة.
وضعني نصّ غانم، مجدداً، أمام نسخة وجوديّة من غانم، لكنّها نسخة محقّقة ومنقّحة ومزكّاة من قبله، عليّ أن أقبلها، كما أراد هو أن يرسمها ويعبّر عنها. المعضلة التي واجهتها وأنا أقرأ باستمتاع منعش هي كيف أوحّد النسخة مع أصلها البشريّ! كيف أطابق بين الحرف والصورة، بين الراوي ومغامراته الحياتيّة! والأصعب من كلّ ذلك كيف أطابق بين الحكواتي ورواد مقهاه، الذين تفاعلوا مع النصّ، كأنّهم أبطاله الحقيقيين!
في كلّ حلقة كنت أقول لنفسي: لا جديد! هذا هو غانم نسخة وأصلاً. لكنّني رغماً عن ذلك لبثت أبحث بشغف عن صفحة مكرّرة من هذا اللاجديد، علنّي أجد لاجديداً جديداً يطفئ ظمأي لمعرفة حقيقتي الشخصيّة من خلال حكاية وشخص غانم سارداً ومعايشاً. وربّما وجد كثيرون أنفسهم يعيشون الحالة ذاتها، ينتظرون من غانم أن يعيد على أسماعهم، بطريقته الساخرة، سرّ المأساة التي عاشوها جميعاً، المأساة التي يعرفون أسرار تفاصيلها كاملة. لقد خُيّل إليّ أنّ غانماً جميع المنفيين كلّهم ليجعلهم يمكرون بأنفسهم. ربّما لهذا السبب، إن صحّ، غدت مذكّرات غانم أحد أبرز الفضاءات السرديّة لدى العراقيين الموجوعين في زمن الانترنيت، تجمعهم، تعيد إلى نفوسهم وحدة وألفة صادقتين فقدوهما منذ أزمان بعيدة، حتّى كادوا أن ينسوا معناهما الواقعيّ.
في الغربة يعيش فنانو المسرح والسينما أربع غربات: غربة المكان، وغربة المهنة والتخصص، وغربة الذات، وغربة مواجهة جيش الوشاة، زبانية الأحزاب. وخلافاً للشاعر والرسام والقاص يعيش الممثل والمخرج حصاراً مهنيًّا بسبب ضيق إمكانيّة ممارسة التخصص، ذي الطابع الجماعيّ. ولم يفلت من هذا الحصار عراقيًّا سوى النزر، لأسباب استثنائيّة جدًّا. لذلك حاول بعض المسرحيين الخروج من الحصار بحلول فرديّة. فكتب ومثّل وأخرج فاضل سوداني مسرحيّة “الرحلة الضوئيّة” في الدانمارك، وحاول علي ريسان في السويد أن يخرج من عقبات الانتشار، التي عانت منها “الرحلة الضوئيّة”، فقام باستلاف نصوص عراقيّة، ذوات نبرة عاطفيّة ووطنيّة: “أطفال الحرب”، مكّنته من التحرك بشكل أوسع، في المكان حسب. في هذا الواقع الصعب وجد الفنان المرهف والحسّاس غانم بابان أن الأبواب كلّها مغلقة، وأن التحرّك من غربة رثة إلى غربة أكثر نظافة وأناقة من سابقاتها لا يخلق الخلاص المنشود. فأنّى تكون تجد أمامك أسوار الحصار المهنيّ، وتجد حولك جيش وشاة الخارج، الجيش الأكثر خسّة ولؤماً وغباء من وشاة الداخل. فإذا كان وشاة الداخل يفتحون جرحاً مميتاً في جسدك، فإنّ وشاة الخارج يعيدون فتح الجرح ويصبّون السمّ فيه. كان لا بدّ لغانم، الخارج توا، من معركة الغربة بثوبها العربيّ أن يتخلّى عن سيفه المسرحيّ وحصانه الدراميّ، وأن يستعير دوراً مسرحيًّا جديداً له، يستلفه من مسرحيات الممثّل الواحد، ولكن من دون خشبة مسرح، من دون ستارة عرض، من دون مخرج ومنتج وممثلين، فاختار المذكّرات.
ربّما هنا، في هذا الحيّز الضيّق، المجهول للكثيرين من الأجيال المتأخّرة، تكمن نقطة تفوّق مذكرات غانم، التي استطاعت بصدقها تمجيد الانكسار والضعف والعجز، بدلاً من التغنّي الكاذب بالبطولات الزائفة. مثل هذا الهجاء مارسه كثيرون. لكنّ هجائيّة غانم، ببساطتها السرديّة وبأحمالها العاطفيّة والإشاريّة الثقيلة، لم تتوقف عند هذا الحدّ المؤلم، والمحزن، بل اتّخذها غانم وسيلة قتاليّة صادقة وصلبة، جعلتها تقلب موازين الضعف وتحيلها قوّة مساوية للحياة، وتحيل معها الخيبة شوقاً لفجر محمّل بالأمل، ولو تمنيًّا، أو كذباً أبيض على الذات نحن في عوز إليه، لكي نخدع به أنفسنا. تلك كانت النقطة المتوقّدة، التي اجتذب بريقها وحرارتها جمعاً غفيراً من المتابعين، ممن فقدوا ثقتهم بما حولهم، وممن سحقتهم الخيبة وجرحهم الخذلان، فوجدوا في مشاغبات غانم الأليفة جرعات من السمّ الصافي والشافي يداوون به الطعنات التي مزّقت أرواحهم. كثيرون كانوا في انتظار معجزة غانم السحريّة، التي يحفظونها عن ظهر قلب. أمّا هو فقد استجاب إلى ندائهم الخفيّ، فنهض من إحدى غيبوباته العميقة ليحيي أرواحهم، التي وأدتها حروب الإيذاء السياسيّ الطويلة.
ليت هذه المذكرات تكون عوناً لمن تخصّصوا وتمرّسوا في فن الإيذاء، لا لكي يكفّروا عن ذنوب اقترفوها بحقّ أصدقاء ورفاق لهم، ولكن لكي يدركوا حجم الأذى والقهر الذي ألحقوه ببشر مسالمين، صادقين، متميّزين على امتداد المنافي. وربّما تكون الفائدة أعظم لو قُدّر للجيل الجديد من أبناء العراق المؤمن بالحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة أن يتعلموا الدرس، وأن يواجهوا الحقيقة الخفيّة، المطموسة تحت أتربة الدعاية الفارغة، لكي يعرفوا سرّ الهزائم، وحقيقة النكسات التي منيت بها حياتنا الاجتماعيّة والروحيّة، بما فيها فقدان قيم الاستقلال والتقدّم والخير والجمال.
أمران يميّزان مذكّرات غانم، أوّلهما غياب الحدود الفاصلة بين المعيش والمتخيل. وهو غياب قسريّ، وليس غياباً إيهاميًّا. حينما تنعدم الحدود بين النوم واليقظة، بين الصحو والخدر، بين الخير والشر، بين الأمل والانكسار التامّ، يكون التفريق بين ما جرى على الأرض وما سال من المخيّلة ضرباً من المحال والعبث. إنّ البحث عن الحقيقة السرديّة ليس سوى وهم في هجائيّة تجمع بين العمق والتشويق والعفوية النبيهة، وكلمات تختزن أصدق لحظات القدر قسوة ومرارة وهزلاً.
أمّا الأمر الثاني فهو شجاعة غانم السرديّة في مقهاه الكونيّ الطليق. فقد حاور غانم ذاته باعتباره بطلاً للانكسارات، بطلاً للخيبات، بطل الخسائر الدائمة، الفنيّة والمهنيّة والعاطفيّة واليوميّة الحياتيّة، خسائر العمر الشاملة. لقد حلم دوستويفسكي بكتابة رواية يكون بطلها الكائن الاعتياديّ، فأنتج “الأبله”، الذي لم يكن اعتياديًّا. لكنّ غانماً مضى أبعد في مجال تصنيع الأبطال، فأنتج لنا البطل اللابطل في مجتمع الحروب الدائمة والبطولات العجيبة، أنتج راوي السيرة المنكسرة، ولكن بروح عنيدة، وسارد المأساة ولكن بيقين الساخر، المتهكّم، الماسك بتلابيب القدر اللعين. لقد كتب غانم هجاءً مريراً عن المأساة المخيفة، أضحكنا عليها تشفيًّا، أكثر مما أبكتنا قسوة معايشاتها وفظاظة حقيقتها المرعبة. مذكّرات غانم انتصار لقوّة الحياة والجمال على جبروت القبح والجهل والقهر السياسيّ والعداء للإنسان. إنّها غنيمة حرب يختطفها الخاسرون من فم المصير القاسي والأزمان الرديئة.
الناقد سلام عبود